فصل: ذكر غزو الفرنج بالأندلس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة هاجت العصبية بالشام بين المضرية واليمانية، فأرسل الرشيد فأصلح بينهم.
وفيها زلزلت المصيصة، فانهدم سورهأن ونضب ماؤها ساعة من الليل.
وفيها خرج عبد السلام بآمد، فحكم، فقتله يحيى بن سعيد العقيلي.
وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة، فوهبه لله، وجعله قرباناً له وولاه العواصم. وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن العباس بن محمد بن علي.
وفيها توفي الفضيل بن عياض الزاهد، وكان مولده بسمرقند، وانتقل إلى مكة فمات بها.
وفيها توفي المعمر بن سليمان بن طرخان التيمي أبومحمد البصري. وكان مولده سنة ست أوسبع ومائة؛ وعمر بن عبيد الطنافسي الكوفي.
وفيها توفي أبومسلم معاذ الهراء النحوي، وقيل كنيته أبوعلي، وعند أخذ الكسائي النحو، وولد أيام يزيد بن عبد الملك.

.حوادث سنة ثمان وثمانين ومائة:

في هذه السنة غزا إبراهيم بن جبرئيل الصائفة، فدخل أرض الروم من درب الصفصاف، فخرج إليه نقفور ملك الروم، فأتاه من ورائه أمر صرفه عنه، ولقي جمعاً من المسلمين، فجرح ثلاث جراحات، وقتل من الروم، فيما قيل، أربعون ألفاً وسبعمائة.
وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق. وحج بالناس فيها الرشيد، فقسم أموالاً كثيرة، وهي آخر حجة حجها في قول بعضهم.
وفيها توفي جرير بن عبد الحميد الضبي الرازي وله ثمان وسبعون سنة.
وفيها توفي العباس بن الأحنف الشاعر، وقيل سنة ثلاثة وتسعين، ومات أبوه الأحنف سنة خمسين ومائة.
وفيها توفي شهيد بن عيسى بالأندلس وعمره ثلاث وتسعون سنة؛ وكان دخوله الأندلس مع عبد الرحمن بن معاوية.
شهيد بضم الشين المعجمة، وفتح الهاء.

.حوادث سنة تسع وثمانين ومائة:

.ذكر مسير هارون الرشيد إلى الري:

وفي هذه السنة سار الرشيد إلى الري؛ وسبب ذلك أن الرشيد لما استعمل علي بن عيسى بن ماهان على خراسان ظلم أهلهأن وأساء السيرة فيهم، فكتب كبراء أهلها وأشرافها إلى الرشيد يشكون سوء سيرته وظلمه، واستخفافه بهم، وأخذ أموالهم. وقيل للرشيد: إن علي بن عيسى قد أجمع على الخلاف، فسار إلى الري في جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، وكان قد جعله ولي عهد بعد المأمون، وجعل أمره إلى المأمون إن شاء أقره، وإن شاء خلعه، وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم أن جميع ما في عسكره في الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون وليس له فيه شيء.
وأقام الرشيد بالري أربعة أشهر حتى أتاه علي بن عيسى من خراسان، فلما قدم عليه أهدى له الهدايا الكثيرة، والأموال العظيمة، وأهدى لجميع من معه من أهل بيته، وولده، وكتابه، وقواده من الطرف والجواهر، وغير ذلك، ورأى الرشيد خلاف ما كان يظن فرده إلى خراسان.
ولما أقام الرشيد بالري سير حسيناً الخادم إلى طبرستان، وكتب معه أماناً لشروين أبي قارن، وأماناً لوندا هرمز، جد مازيار، وأماناً لمرزبان بن جستان صاحب الديلم، فقدم جستان ووندا هرمز، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وضمن وندا هرمز السمع والطاعة، وأداء الخراج عن شروين.
ورجع الرشيد إلى العراق، ودخل بغداد في آخر ذي الحجة. فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بن يحيى، ولم ينزل بغداد، ومضى من فوره إلى الرقة، ولما جاز بغداد قال: والله إني لأطوي مدينة ما وضع بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منهأن وإنها لدار مملكة بني العباس ما بقوأن وحافظوا عليهأن ولا رأى أحد من آبائي سوءاً ولا نكبة منهأن ولنعم الدار هي، ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق، والبغض لأئمة الهدى، والحب لشجرة اللعنة بني أمية مع ما فيها من المارقة، والمتلصصة ومخيفي السبيل، ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت. فقال العباس بن الأحنف في طي الرشيد بغداد:
ما أنحنا حتى ارتحلنا فمانف ** رق بين المناخ والارتحال

ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ** فقرنا وداعهم بالسؤال

.ذكر الفتنة بطرابلس الغرب:

في هذه السنة كثر شغب أهل طرابلس الغرب على ولاتهم، وكان إبراهيم بن الأغلب، أمير إفريقية، قد استعمل عليهم عدة ولاة، فكانوا يشكون من ولاتهم، فيعزلهم، ويولي غيرهم، فاستعمل عليهم هذه السنة سفيان بن المضاء، وهي ولايته الرابعة، فاتفق أهل البلد على إخراجه عنهم، وإعادته إلى القيروان، فزحفوا إليه، فأخذ سلاحه، وقاتلهم هو وجماعة ممن معه، فأخرجوه من داره، فدخل المسجد الجامع، فقاتلهم فيه، فقتلوا أصحابه، ثم أمنوه، فخرج عنهم في شعبان من هذه السنة، فكانت ولايته سبعاً وعشرين يوماً.
واستعمل الجند الذين بطرابلس على البلد وأهله إبراهيم بن سفيان التميمي.
ثم وقع بين الأبناء بطرابلس أيضاً وبين قوم يعرفون ببني أبي كنانة وبني يوسف حروب كثيرة، وقتال، حتى فسدت طرابلس، فبلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب، فأرسل جمعاً من الجند، وأمرهم أن يحضروا الأبناء وبني أبي كنانة، وبني يوسف، فأحضروهم عنده بالقيروان في ذي الحجة، فلما قدموا عليه سألوه العفوعنهم في الذي فعلوه، فعفا عنهم، فعادوا إلى بلدهم.

.ذكر عدة حوادث:

فيها كان الفداء بين المسلمين والروم، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به.
وحج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها ولى الرشيد عبد الله بن مالك طبرستان والري ودنباوند وقومس وهمذان، وهومتوجه إلى الري، فقال أبوالعتاهية في مسيره إليهأن وكان الرشيد ولد بها:
إن أمين الله في خلقه ** حن به البر إلى مولده

ليصلح الري وأقطارها ** ويمطر الخير بها من يده

وفيها مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه، صاحب أبي حنيفة، وحميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي أبوعوف، وسابق بن عبد الله الموصلي، وكان من الصالحين البكائين من خشية الله تعالى.

.حوادث سنة تسعين ومائة:

.ذكر خلع رافع بن الليث بن نصر:

وفي هذه السنة ظهر رافع بن الليث بن نصر بما وراء النهر مخالفاً للرشيد بسمرقند.
وكان سبب ذلك أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه أبي النعمان، وكانت ذات يسار ولسان، ثم تركها بسمرقند، وأقام ببغداد، واتخذ السراري، فلما طال ذلك عليهأن أرادت التخلص منه، وبلغ رافعاً خبرهأن فطمع فيها وفي مالهأن فدس إليها من قال لها: إنه لا سبيل إلى الخلاص من زوجها إلا أن تشهد عليها قوماً أنها أشركت بالله، ثم تتوب، فينفسخ نكاحهأن وتحل للأزواج، ففعلت ذلك، وتزوجها رافع. فبلغ الخبر يحيى بن الأشعث، فشكا إلى الرشيد، فكتب إلى علي بن عيسى بن ماهان يأمره أن يفرق بينهمأن وأن يعاقب رافعأن ويجلده الحد، ويقيده ويطوف به في سمرقند على حمار ليكون عظة لغيره، ففعل به ذلك، ولم يحده، وطلقها رافع وحبس بسمرقند، فهرب من الحبس، فلحق بعلي بن عيسى ببلخ، فأراد ضرب عنقه، فشفع فيه عيسى بن علي بن عيسى، وأمره بالانصراف إلى سمرقند، فرجع إليهأن ووثب بعامل علي بن عيسى عليها، فقتله، واستولى عليها فوجه إليه ابنه، فلقيه، فهزمه رافع، فأخذ علي بن عيسى في جمع الرجال والتأهب لمحاربته، وانقضت السنة.

.ذكر فتح هرقلة:

في هذه السنة فتح الرشيد هرقلة، وأخربها؛ وكان سبب مسيره إليها ما ذكرناه سنة سبع وثمانين ومائة، من غدر نقفور، وكان فتحها في شوال، وكان حصرها ثلاثين يومأن وسبى أهلهأن وكان قد دخل البلاد في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفاً من المرتزقة، سوى الأتباع والمتطوعة، ومن لا ديوان له، وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع، ووجه داود بن عيسى بن موسى سائراً في أرض الروم في سبعين ألفاً يخرب وينهب، ففتح الله عليه، وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودلسة، وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقونية، واستعمل حميد بن معيوف على سواحل الشام ومصر، فبلغ قبرس، فهدم واحرق وسبى من أهلها سبعة عشر ألفاً فأقدمهم الرافقة، فبيعوا بهأن وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار.
ثم سار الرشيد إلى طوانة، فنزل بهأن ثم رحل عنهأن وخلف عليها عقبة بن جعفر.
وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ولده دينارين، وعن بطارقته كذلك، وكتب نقفور إلى الرشيد في جارية من سبي هرقلة كان خطبها لولده، فأرسلها إليه.

.ذكر عدة حوادث:

وخرج في هذه السنة خارجي من ناحية عبد القيس، يقال له سيف بن بكير، فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد ين مزيد، فقتله بعين النورة.
وفيها نقض أهل قبرس العهد، فعزاهم معيوف بن يحيى، فسبى أهلها. وحج بالناس عيسى بن موسى الهادي.
وفيها اسلم الفضل بن سهل على يد المأمون، وقيل بل أسلم أبوه سهل على يد المهدي، وكان محبوسأن وقيل أسلم الفضل وأخوه الحسن على يد يحيى بن خالد، فاختاره يحيى لخدمة المأمون، فلهذا كان الفضل يرعى البرامكة، ويثني عليهم، ولقب بذي الرئاستين لأنه تقلد الوزارة والسيف، وكان يتشيع، وهوالذي أشار على المامون بالعهد لعلي بن موسى الرضي، عليه السلام.
وكان على الموصل هذه السنة خالد بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، ولما دخل الموصل أنكسر لواؤه في باب المدينة، فتطير منه، وكان معه أبوالشيص الشاعر، فقال في ذلك:
ما كان منكسر اللواء لطيرة ** تخشى ولا أمر يكون مويلا

لكن هذا الرمح أضعف ركنه ** صغر الولاية فاستقل الموصلا

فسري عن خالد وفيها غزا الرشيد الصائفة، واستخلف المأمون بالرقة، وفوض إليه الأمور، وكتب إليه الآفاق بذلك، ودفع إليه خاتم المنصور تيمناً به، ونقشه: الله ثقتي آمنت به.
وفيها خرجت الروم إلى عين زربي، والكنيسة السوداء وأغاروأن فاستنقذ أهل المصيصة ما كان معهم من الغنيمة.
وفيها توفي أسد بن عمروبن عامر أبوالمنذر البجلي الكوفي، صاحب أبي حنيفة.
وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوساً بالرافقة في المحرم وعمره سبعون سنة، وعمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري.

.حوادث سنة إحدى وتسعين ومائة:

.ذكر الفتنة من أهل طليطلة وهو وقعة الحفرة:

في هذه السنة أوقع الأمير الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، بأهل طليطلة، فقتل منهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل من أعيان أهلها.
وسبب ذلك أن أهل طليطلة كانوا قد طمعوا في الأمراء، وخلعوهم مرة بعد أخرى، وقويت نفوسهم بحصانة بلدهم وكثرة أموالهم، فلم يكونوا يطيعون أمراءهم طاعة مرضية، فلما أعيا الحكم شأنهم أعمل الحيلة في الظفر بهم، فاستعان في ذلك بعمروس بن يوسف المعروف بالمولد، وكان قد ظهر في هذا الوقت بالثغر الأعلى، فأظهر طاعة الحكم، ودعا إليه، فاطمأن إليه بهذا السبب، وكان من أهل مدينة وشقة، فاستحضره فحضر عنده، فأكرمه الحكم، وبالغ في إكرامه، وأطلعه على عزمه في أهل طليطلة وواطأه على التدبير عليهم، فولاه طليطلة، وكتب إلى أهلها يقول: إني قد اخترت لكم فلانأن وهومنكم، لتطمئن قلوبكم إليه، وأعفيتكم ممن تكرهون من عمالنا وموالينأن ولتعرفوا جميل رأينا فيكم.
فمضى عمروس إليهم، ودخل طليطلة، فأنس به أهلهأن واطمأنوا إليه، وأحسن عشرتهم، وكان أول ما عمل عليهم من الحيلة أن أظهر لهم موافقتهم على بغض بني أمية، وخلع طاعتهم، فمالوا إليه، ووثقوا بما يفعله؛ ثم قال لهم: إن سبب الشر بينكم وبين أصحاب الأمير إمنا هواختلاطهم بكم، وقد رأيت أن أبني بناء أعتزل فيه أنا وأصحاب السلطان رفقاً بكم؛ فأجابوه إلى ذلك، فبنى في وسط البلد ما أراد.
فلما مضى لذلك مدة كتب الأمير الحكم إلى عامل له على الثغر الأعلى سراً يأمره أن يرسل إليه يستغيث من جيوش الكفرة، وطلب النجدة والعساكر، ففعل العامل ذلك فحشد الحكم الجيوش من كل ناحية، واستعمل عليهم ابنه عبد الرحمن لدخولهأن فأتاه، وهوعندهأن الخبر من ذلك العامل أن عساكر الكفرة قد تفرقت، وكفى الله شرهأن فتفرق العسكر، وعزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة، فقال عمروس عند ذلك لأهل طليطلة: قد ترون نزول ولد الحكم إلى جانبي، وإنه يلزمني الخروج إليه وقضاء حقه، فإن نشطتم لذلك وإلا سرت إليه وحدي؛ فخرج معه وجوه أهل طليطلة، فأكرمهم عبد الرحمن، وأحسن إليهم.
وكان الحكم قد أرسل مع ولده خادماً له، ومعه كتاب لطيف إلى عمروس، فأتاه الخادم، وصاحه، وسلم الكتاب إليه من غير أن يحادثه، فلما قرأ عمروس الكتاب رأى فيه كيف تكون الحيلة على أهل طليطلة، فأشار إلى أعيان أهلها بأن يسألوا عبد الرحمن الدخول إليهم ليرى هو وأهل عسكره كثرتهم، ومنعتهم، وقوتهم، فظنوه ينصحهم، ففعلوا ذلك، وأدخلوا عبد الرحمن البلد، ونزل مع عمروس في داره، وأتاه أهل طليطلة أرسالاً يسلمون عليه.
وأشاع عمروس أن عبد الرحمن يريد أن يتخذ لهم وليمة عظيمة، وشرع في الاستعداد لذلك، وواعدهم يوماً ذكره، وقرر معهم أن يدخلون من باب، ويخرجون من آخر ليقل الزحام، ففعلوا ذلك.
فلما كان اليوم المذكور أتاه الناس أفواجأن فكان كلما دخل فوج، أخذوا وحملوا إلى جماعة من الجند على حفرة كبيرة في ذلك القصر، فضربت رقابهم عليها؛ فلما تعالى النهار أتى بعضهم فلم ير أحدأن فقال: أين الناس؟ فقيل: إنهم يدخلون من هذا الباب، ويخرجون من الباب الآخر، فقال: ما لقيني منهم أحد، وعلم الحال، وصاح، وأعلم الناس هلاك أصحابهم، فكان سبب نجاة من بقي منهم، فذلت رقابهم بعدهأن وحسنت طاعتهم بقية أيام الحكم وأيام ولده عبد الرحمن، ثم انجبرت مصيبتهم، وكثروأن فلما هلك عبد الرحمن وولي ابنه محمد عاجلوه بالخلع على ما نذكره.

.ذكر عصيان أهل ماردة على الحكم وما فعله بأهل قرطبة:

وفيها عصى أصبغ بن عبد اله، ووافقه أهل مدينة ماردة من الأندلس، على الحكم، وأخرجوا عامله، واتصل الخبر بالحكم، فسار إليها وحاصرهأن فبيمنا هومجد في الحصار أتاه الخبر عن أهل قرطبة أنهم أعلنوا العصيان له، فرجع مبادرأن فوصل إلى قرطبة في ثلاثة أيام، وكشف عن الذين أثاروا الفتنة، فصلبهم منكسين، وضرب أعناق جماعة، فارتدع الباقون بذلك، واشتدت كراهيتهم له.
ولم يزل أهل مادرة تارة يطيعون، ومرة يعصون إلى سنة اثنتين وتسعين، فضعف أمر أصبغ لأن الحكم تابع إرسال الجيوش إليه، واستمال جماعة من أعيان أهل ماردة وثقاته من أصحابه، فمالوا إليه، وفارقوا اصبغ، حتى أخوه، فتحير أصبغ، وضعفت نفسه، فأرسل يطلب الأمان فأمنه الحكم، ففارق ماردة، وحضر عند الحكم، وأقام عنده بقرطبة.

.ذكر غزو الفرنج بالأندلس:

في هذه السنة تجهز لذريق ملك الفرنج بالأندلس، وجمع جموعه ليسير إلى مدينة طرطوشة ليحصرهأن فبلغ ذلك الحكم، فجمع العساكر وسيرها مع ولده عبد الرحمن فاجتمعوا في جيش عظيم، وتبعهم كثير من المتطوعة، فساروأن فلقوا الفرنج في أطراف بلادهم قبل أن ينالوا من بلاد المسلمين شيئأن فاقتتلوا وبذل كل من الطائفتين جهده، واستنفد وسعه، فأنزل الله تعالى نصره على المسلمين، فانهزم الكفار، وكثر القتل فيهم، والأسر، ونهبت أموالهم وأثقالهم، وعاد المسلمون ظافرين غامنين.

.ذكر عصيان حزم على الحكم:

في هذه السنة خالف حزم بن وهب بناحية باجة، ووافقه غيره، وقصدوا لشبونة، وكان الحكم يسمي حزمأن في كتبه، النبطي، فلما سمع الحكم خبره سير إليه ابنه هشاماً في جمع كثير، فأذله ومن معه، وقطع الأشجار وضيق عليهم، حتى أذعنوا لطلب الأمان فأمنه.

.ذكر عزل علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وولاية هرثمة:

وفيها عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان؛ وكان سبب ذلك ما ذكرناه من قتل ابنه عيسى، فلما قتل جزع عليه أبوه، فخرج عن بلخ إلى مرومخافة عليها أن يسير إليها رافع بن الليث ليأخذهأن وكان ابنه عيسى قد دفن في بستان، في داره ببلخ، أموالاً عظيمةً قيل كانت ثلاثين ألف ألف، ولم يعلم بها أبوه ولم يطلع عليها إلا جارية له، فلما سار علي بن عيسى إلى مروأطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدث به الناس، واجتمعوأن ودخلوا البستان، ونهبوا المال، وبلغ الرشيد الخبر، فقال: خرج عن بلخ عن غير أمري، وخلف مثل هذا المال، وهويزعن أنه قد باع حلي نسائه، فيما أنفق على محاربة رافع! فعزله، واستعمل هرثمة بن أعين.
وكان قد نقم الرشيد عليه ما كان يبلغه من سوء سيرته وإهانته أعيان الناس واستخفافه بهم، فمن ذلك أنه دخل عليه يوماً الحسين بن مصعب والد طاهر بن الحسين، وهشام بن فرخسرو، فسلما عليه، فقال للحسين: لا سلم الله عليك يا ملحد بن الملحد، والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوة الإسلام، والطعن في الدين، ولم أنتظر بقتلك إلا أمر الخليفة، ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد أن ثملت من الحزم، وزعمت أنك جاءتك كتب من بغداد بعزلي؟ اخرج إلى سخط الله لعنك الله، فعن قريب ما يكون منهأن فاعتذر إليه، فلم يقبل عذره، وأمر بإخراجه فأخرج.
وقال لهشام بن فرخسرو: صارت دارك دار الندوة، يجتمع إليك السفهاء تطعن على الولادة، سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! فاعتذر إليه، فلم يعذره فأخرجه.
فأما الحسين فسار إلى الرشيد، فاستجار به وشكا إليه فأجاره؛ وأما هشام فإنه قال لبنت له: إني أخاف الأمير على دمي وأنا مفض إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت، وإن أنت كتمته سلمت. قالت: وما هو؟ قال: قد عزمت على أن أظهر أن الفالج قد أصابني، فإذا كان في السحر، فاجمعي جواريك، واقصدي فراشي وحركيني، فإذا رأيت حركتي تقلت فصيحي أنت وجواريك، واجمعي إخواتك فأعلميهم علتي، ففعلت ما أمرهأن وكانت عاقلة، فأقام مطروحاً على فراشه حيناً إلى أن جاء هرثمة واليأن فركب إلى لقائه، فرآه علي بن عيسى بن ماهان، فقال: إلى أين؟ فقال: أتلقى الأمير أبا حاتم. قال: ألم تكن عليلاً؟ فقال: وهب الله العافية، وعزل الطاغية في ليلة واحدة، فعلى هذا تكون ولاية هرثمة ظاهرة.
وقيل: بل كانت ولايته سرأن لم يطلع الرشيد عليها أحدأن فقيل: إنه لما أراد عزل علي بن عيسى استدعى هرثمة، وأسر إليه ذلك، وقال له: إن علي بن عيسى قد كتب يستمدني بالعساكر والأموال، فأظهر للناس أنك تسير إليه نجدة له. وكتب له الرشيد كتاباً بولايته بخط يده، وأمر أن يكتبوا له إلي علي بن عيسى بأنه قد سير هرثمة نجدة له.
فسار هرثمة ولا يعلم بأمره أحد، حتى ورد نيسابور، فلما وردها استعمل أصحابه على كورهأن وسار مجداً يسبق الخبر، فأتى مرو والتقاه علي بن عيسى، فاحترمه هرثمة، وعظمه، حتى دخل البلد، ثم قبض عليه وعلى أهله وأصحابه وأتباعه وأخذ أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف؛ وكانت خزائنه وأثاثه على ألف وخمسمائة بعير، فأخذ الرشيد ذلك كله؛ وكان وصول هرثمة إلى خراسان سنة اثنتين وتسعين، فلما فرغ هرثمة من أخذ أموالهم أقامهم لمطالبة الناس، وكتب إلى الرشيد بذلك، وسير علي بن عيسى إليه على بعير بغير وطاء ولا غطاء.

.ذكر عدة حوادث:

فيها خرج خارجي يقال له ثروان بن سيف بناحية حولايأن وتنقل في السواد، فوجه إليه طوق بن مالك، فهزمه طوق، وجرحه وقتل عامة أصحابه.
وفيها خرج أبوالنداء بالشام، فسير الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ، وعقد له على الشام.
وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني.
وفيها أرسل أهل نسف إلى رافع بن الليث يسألونه أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بن علي بن عيسى، وعلي بن عيسى، فأرسل إليهم جمعأن فقتلوا عيسى وحده في ذي القعدة.
وفيها غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذت الروم عليه المضيق، فقتلوه وخمسين رجلأن وسلم الباقون، وكان ذلك على مرحلتين من طرسوس.
وفيها استعمل الرشيد على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يوليه خراسان، وضم إليه ثلاثين ألفاً من أهل خراسان، ورتب الرشيد بدرب الحدث عبد الله بن مالك، وبمرعش سعيد بن سلم بن قتيبة، فأغارت الروم عليهأن فأصابوا من المسلمين، وانصرفوأن ولم يتحرك سعيد من موضعه؛ وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرسوس.
وأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من رمضان، وعاد إلى الرقة، وأمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور، وأخذ أهل الذمة بمخالفة هيئة المسلمين في لباسهم، وركوبهم، وأمر هرثمة ببناء طرسوس وتمصيرهأن ففعل، وتولى ذلك فرج الخادم بأمر الرشيد، وسير إليها جنداً من أهل خراسان ثلاثة آلاف، ثم أشخص إليهم ألفاً من أهل المصيصة، وألفاً من أهل أنطاكية، وتم بناؤها سنة اثنتين وتسعين ومائة، وبنى مسجدها.
وحج بالناس هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان أميراً على مكة؛ وكان على الموصل محمد بن الفضل بن سليمان.
وفيها توفي الفضل بن موسى السيناني أبوعبد الله المروزي، مولى بني قطيعة، وكان مولده سنة خمس عشرة ومائة.
السيناين بكسر السين المهملة، وبالياء المثناة من تحت، وبالنون قبل الألف، ثم بنون بعده، منسوب إلى سينان وهي قرية من قرى مرو.